لورانس العرب
صفحة 1 من اصل 1
لورانس العرب
لورانس العرب هو جاسوس
بريطاني.. تحدثت عنه كثير من الكتب، حتى بلغ عدد هذه الكتب أكثر من ثلاثين
كتابًا.. وحتى ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حتى جعلته هذه الكتب
أسطورة في عالم التجسس، ولكن الذين عرفوه وعايشوه في تلك الحقبة من
الزمان؛ قد وصفوه بما يلي:
كان لورنس عميلاً للمخابرات البريطانية، يعمل ضمن خطة وضعتها تلك المخابرات لكي تفتت به العالم العربي..
ولد
توماس إدوارد لورنس عام 1888، في بلاد الفال بإنجلترا، ولادة غير شرعية من
أب أيرلندي الأصل، ويقال إن تلك الولادة غير الشرعية قد أثرت في تكوين
شخصيته، وكانت حافزًا له للسعي والتفوق لمحو عار تلك الولادة. ومنذ صغره
ظهرت عليه نزعة السيطرة والتفوق والقيادة والشجاعة، في لعبة السلم والحرب،
كما بدت عليه سمات الذكاء الحاد والمخيلة الوثابة، والإحساس المرهف..
ومما
أثر في لورنس صغيرًا كونه عاش في بيئة رجال لا يخفف من خشونتها سوى ما
يضفيه عليه حنان الأم؛ حتى أشيع عنه أنه لا يرتاح إلى مجالس النساء. وأنهى
لورانس شهادة الثانوية، والتحق بجامعة أكسفورد، قسم الآثار..
انتقلت
عائلة لورنس إلى أكسفورد لتكون بجانب لورنس أثناء دراسته، وكان يعيش في
هذا المكان الدكتور جيمس هوجارت؛ وهو الذي يشرف على متحف أكسفورد،
باعتباره كاتبًا وعالمًا في الآثار، وهو في نفس الوقت كان يشغل منصبًا
بارزًا في المخابرات البريطانية. وقد لاحظ هذا الرجل بما لديه من خبرة
ودراية شغوف لورنس الصغير بالعلوم الأثرية، فاهتم به ورعاه علميًا ونفسيًا
في شتى مراحل الدراسة، وكانت المخابرات البريطانية في هذا الوقت في أوج
عظمتها وسلطاتها، وكانت تطل من وجه عالم آثار أو بائع خضار، أو حتى سائق
تاكسي.
وكما
كان لقاء المخابرات مع لورانس بغير موعد؛ كان لقاء لورانس مع العرب صدفة
أيضًا، عن طريق كتاب اسمه "الصحراء العربية" بقلم شارل داني؛ حيث كان
لورانس يطالع هذا الكتاب وهو طريح الفراش لكسر في رجله، وقد ألهب الكتاب
مخيلته، وأيقظ في نفسه رغبة ملحة، تدعوه إلى تعلم اللغة العربية،
والانطلاق إلى حياة البدو، وانطلاقًا من هذا الجو ومن هذه المشاعر
العربية، نشأ حلم لورنس بالشرق الأوسط والصحراء منجذبًا بسحر خفي، لا يدرك
سره، وشفي لورنس من كسر رجله، وغادر فراشه، وأصيب جهاز الغدد في جسده، فظل
نموه متوقفًا ولم يبلغ الواحدة والعشرين من عمره...
وانتهى
لورنس من هذه المرحلة الدراسية في حياته، وقرر إعداد دبلوم عن تأثير
الصليبيين على فن النحت في الأجيال الوسطى، وشجعه الدكتور هوجارت عميل
المخابرات البريطانية، واقترح عليه السفر إلى الشرق لتحضير هذه الدبلوما،
فسافر إلى بيروت عام 1909؛ ومنها إلى صيدا والجليل، ثم الناصرة والكرمل،
وعكا، وكان يبحث وينقب عن الآثار التي تساعده على إتمام دبلومته، وعاد بعد
ذلك إلى دمشق، وترافقه زوجته، وتعرف على البدو وحياتهم، وأحب حضارتهم
المتحررة من أثقال المدنية، حتى وصل إلى قرية "أورفا" على الحدود التركية،
ثم عاد إلى حلب، وأصيب هناك بالملاريا؛ مما اضطره للعودة إلى بيروت، ومنها
سافر بحرًا إلى بريطانيا موطنه الأصلي..
وبعد
تلك العودة قدم الدبلوما إلى السلطات الجامعية التي قامت بنسخ صورة منها،
وسلمتها إلى إدارة المخابرات البريطانية لتضمها إلى ملفه رقم 3174/س، وبعد
تلك الاستراحة عاد إلى العراق ملتحقًا بالبعثة البريطانية التي تقوم هناك
بعمل بحوث عن آثار بابل، وهناك توثقت معرفته أكثر بالصحراء وأهلها، وعرف
كيف يحيا الإنسان في الصحراء مع الله ومع نفسه، وهكذا أصبح لورنس يعرف
الشرقيين، ويعرف عاداتهم، ويتعلم لغتهم؛ بل وأصبح يجيد اللهجة البدوية،
وصار كأنه من أهل هذه البلاد، وقد أدت قدرته على التحمل إلى إعجاب البدو
الزائد به، وكان لورنس يعد نفسه لعمل سياسي في البلاد العربية لم يسبقه
إليه أحد..
عاد
لورنس إلى لندن وقد تغيرت حياته، وأخذ يتحين الفرص للعمل الذي خطط له، وقد
حالفه الحظ عندما أطلق شاب النار عام 1914 على الأرشيدون النمساوي فقتله؛
وبذلك بدأت الحرب العالمية الأولى، فعين لورنس برتبة ضابط احتياط في فرع
الخرائط لدى القيادة العامة للقوات البريطانية، التي كانت تحتل القاهرة
وقتها، وبعد ذلك بدأت تظهر حقيقة لورنس؛ حيث التحق بالعمل هناك، وتم نقل
نشاطه إلى منظمة سرية أُنشئت في القاهرة تحت اسم مستعار لتغطية نشاطها
باسم المكتب العربي؛ وهذا المكتب عبارة عن فرع من فروع المخابرات
البريطانية لممارسة النشاط التخريبي في مصر والأقطار العربية، وبعض
البلدان التابعة للسلطة العثمانية في ذلك الوقت..
في
12 أكتوبر سنة 1916 توجه السير ستور البريطاني إلى السعودية، وكان اسمها
الحجار أو الجزيرة العربية، يرافقه لورانس وبعض الضباط البريطانيين، وكانت
تلك الرحلة تاريخية بالنسبة للورانس؛ إذ إنه بدأ معها ظهور أسطورة لورانس
العرب، بل بدأت معها أكبر ملحمة عرفتها حياة إنسان، وهناك استطاع التسلل
إلى القبائل العربية التي كانت ثائرة على الاستعمار العثماني، وراغبة في
التخلص من حكم الأتراك..
واستطاع
لورنس أن يقنعهم بالثورة على العثمانيين، والتحالف مع القوات البريطانية
مقابل التعهد لهم بإقامة دولة عربية واحدة مستقلة، وأصدرت السلطات
البريطانية ما يثبت للقبائل العربية أنها تنفذ ما تعهد به لورانس باسمها،
ولكن ما إن انتهت الحرب العالمية الأولى حتى تنكرت بريطانيا لهذا الوعد،
وجزأت البلاد العربية كما هو معروف..
وظهرت
أكذوبة لورانس، وأنه عميل يهدف إلى تفتيت وحدة العرب، وعدم السماح لها
بتوحيد قواها الآن، وقام بعملية دسيسة أخرى؛ إذ إنه وعد شريف مكة باسم
بريطانيا بأنها تضمن قيام دولة عربية تمتد من البحر الأحمر حتى الخليج
العربي، وتشمل الجزيرة العربية بأسرها، بما فيها الساحل السوري الذي يضم
سوريا ولبنان وفلسطين، وقام لورنس في حينه بتسليم شريف مكة رسائل موقعة من
مكماهون المندوب السامي البريطاني في مصر، وهذه الرسائل تتعهد باسم
الحكومة البريطانية بتنفيذ التعهدات المذكورة أعلاه، وسميت هذه الرسائل
باسم مذكرات مكماهون، وقد خدع زعماء القبائل وشريف مكة وأعلنا الثورة على
الأتراك، وعندما هزمت تركيا بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى
اتضح أن البريطانيين لم يخلوا بوعودهم للعرب فقط، بل إنهم عقدوا اتفاقًا
سريًا مع فرنسا، وعرف هذا الاتفاق فيما بعد باسم معاهد سايكس بيكو، التي
وقعها على الجانب البريطاني مارك سايكس، وجورج بيكون عن فرنسا، وبموجب هذه
المعاهدة تعود سوريا ولبنان لفرنسا، وتعود العراق والأردن وفلسطين
لبريطانيا..
بالإضافة
إلى ذلك فقد سافر بلفور وزير خارجية بريطانيا إلى الولايات المتحدة في صيف
1917، راجيًا تدخلها في الحرب إلى جانب الحلفاء، ولكن الرئيس الأمريكي في
حينه "ولسن" وعد بلفور بالتدخل شرط تأمين وطن قومي لليهود في فلسطين،
ووافقه على ذلك. ويقول لورانس عن ذلك:
إن
أخبار هذه المعاهدات من وراء ظهري قد وصلت إلى العرب عن طريق تركيا، وطلب
مني بعض الأصدقاء العرب أن أضمن لهم تعهدات بريطانيا التي أنتمي إليها،
ولكني لم أكن قد أبلغت رسميًا بتعهدات مكماهون، ولا بتعهدات سايكس بيكو
لأن هذه المعاهدات وصفتها وزارة الخارجية البريطانية، ولكنني لست غبيًا
إلى هذه الدرجة، فإني كنت أعرف أننا إذا كسبنا الحرب؛ فإن كل هذه التعهدات
ستصبح حبرًا على ورق، فلو كنت مستشارًا مخلصًا لكان علي تسريح رجالي من
المقاتلين العرب، ولا أدعهم يعرضون حياتهم للخطر بسبب تعهدات مشبوهة، ولكن
الحماس العربي معنا كان خير ورقة بيننا في حرب الشرق الأوسط من تركيا
حليفة ألمانيا. وهكذا تأكدت وقلت لرفاقي في القتال إن إنجلترا ستكون عند
حسن الظن بها، وستحترم تعهداتها. أما من وجهة لورنس العرب، فلم أكن فخورًا
بما فعلت؛ لأني لم أزل أحس بمرارة الخجل ومرارة الخيانة..
أما
بريطانيا؛ فقد اعتبرت لورنس يقوم بخداع هؤلاء البدو من العرب لمصلحتها،
فقامت بمنحه وسام الحرب، لكن لورنس عندما شعر بما يبيت للعرب؛ فقد رفض
الوسام، فاعتبر الملك البريطاني أن هذا الرفض إهانة له، كما سبق أن رفض
استلام معاشه من الجيش البريطاني ليظل حرًا في تصرفاته...
وعندما ذهب الشريف فيصل إلى باريس للإعداد لمؤتمر السلم في قصر فرساي؛ رافقه لورنس ودعمه بقوة..
وفي
باريس حامت الشبهات حول لورانس، وكان نوري السعيد يحرض الملك فيصل عليه،
وزادت الشبهات عندما نصح لورنس الملك فيصل بأن يعترف بقيام وطن قومي
لليهود في فلسطين..
وهكذا
كشف لورنس نفسه، ومن المعروف أن الملك فيصل لم ينل شيئًا من باريس، فعاد
إلى دمشق، وقد عين ملكًا لسوريا، حتى اضطر إلى مغادرتها بعد معركة ميلسون
المعروفة من 25 يونيو عام 1949.
وبعد
انتهاء الحرب العالمية الأولى؛ انتهت مهمة لورنس تقريبًا، وعاد إلى لندن
يقضي هناك بقية أيام حياته، وانطوى على نفسه حتى لم يعد أحد يراه مطلقًا،
فأخذت الإشاعات تنطلق هنا وهناك حول اختفائه، ومنهم من قال إنه أصيب
بالجنون، ومنهم من قال إنه عاد إلى الصحراء العربية ليقضي هناك بقية عمره.
وفي
منزل ريفي صغير تفرغ لورنس لكتابة مذكراته التي نشرها في كتاب بعنوان
أعمدة الحكمة السبعة.. هذا الكتاب الذي أحدث أكبر ضجة أدبية وسياسية.
وأخيرًا.. مات لورانس بعد أن صدمته سيارة مسرعة .. مات لورانس.. ولكن القضية العربية لم تمت..
بريطاني.. تحدثت عنه كثير من الكتب، حتى بلغ عدد هذه الكتب أكثر من ثلاثين
كتابًا.. وحتى ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حتى جعلته هذه الكتب
أسطورة في عالم التجسس، ولكن الذين عرفوه وعايشوه في تلك الحقبة من
الزمان؛ قد وصفوه بما يلي:
كان لورنس عميلاً للمخابرات البريطانية، يعمل ضمن خطة وضعتها تلك المخابرات لكي تفتت به العالم العربي..
ولد
توماس إدوارد لورنس عام 1888، في بلاد الفال بإنجلترا، ولادة غير شرعية من
أب أيرلندي الأصل، ويقال إن تلك الولادة غير الشرعية قد أثرت في تكوين
شخصيته، وكانت حافزًا له للسعي والتفوق لمحو عار تلك الولادة. ومنذ صغره
ظهرت عليه نزعة السيطرة والتفوق والقيادة والشجاعة، في لعبة السلم والحرب،
كما بدت عليه سمات الذكاء الحاد والمخيلة الوثابة، والإحساس المرهف..
ومما
أثر في لورنس صغيرًا كونه عاش في بيئة رجال لا يخفف من خشونتها سوى ما
يضفيه عليه حنان الأم؛ حتى أشيع عنه أنه لا يرتاح إلى مجالس النساء. وأنهى
لورانس شهادة الثانوية، والتحق بجامعة أكسفورد، قسم الآثار..
انتقلت
عائلة لورنس إلى أكسفورد لتكون بجانب لورنس أثناء دراسته، وكان يعيش في
هذا المكان الدكتور جيمس هوجارت؛ وهو الذي يشرف على متحف أكسفورد،
باعتباره كاتبًا وعالمًا في الآثار، وهو في نفس الوقت كان يشغل منصبًا
بارزًا في المخابرات البريطانية. وقد لاحظ هذا الرجل بما لديه من خبرة
ودراية شغوف لورنس الصغير بالعلوم الأثرية، فاهتم به ورعاه علميًا ونفسيًا
في شتى مراحل الدراسة، وكانت المخابرات البريطانية في هذا الوقت في أوج
عظمتها وسلطاتها، وكانت تطل من وجه عالم آثار أو بائع خضار، أو حتى سائق
تاكسي.
وكما
كان لقاء المخابرات مع لورانس بغير موعد؛ كان لقاء لورانس مع العرب صدفة
أيضًا، عن طريق كتاب اسمه "الصحراء العربية" بقلم شارل داني؛ حيث كان
لورانس يطالع هذا الكتاب وهو طريح الفراش لكسر في رجله، وقد ألهب الكتاب
مخيلته، وأيقظ في نفسه رغبة ملحة، تدعوه إلى تعلم اللغة العربية،
والانطلاق إلى حياة البدو، وانطلاقًا من هذا الجو ومن هذه المشاعر
العربية، نشأ حلم لورنس بالشرق الأوسط والصحراء منجذبًا بسحر خفي، لا يدرك
سره، وشفي لورنس من كسر رجله، وغادر فراشه، وأصيب جهاز الغدد في جسده، فظل
نموه متوقفًا ولم يبلغ الواحدة والعشرين من عمره...
وانتهى
لورنس من هذه المرحلة الدراسية في حياته، وقرر إعداد دبلوم عن تأثير
الصليبيين على فن النحت في الأجيال الوسطى، وشجعه الدكتور هوجارت عميل
المخابرات البريطانية، واقترح عليه السفر إلى الشرق لتحضير هذه الدبلوما،
فسافر إلى بيروت عام 1909؛ ومنها إلى صيدا والجليل، ثم الناصرة والكرمل،
وعكا، وكان يبحث وينقب عن الآثار التي تساعده على إتمام دبلومته، وعاد بعد
ذلك إلى دمشق، وترافقه زوجته، وتعرف على البدو وحياتهم، وأحب حضارتهم
المتحررة من أثقال المدنية، حتى وصل إلى قرية "أورفا" على الحدود التركية،
ثم عاد إلى حلب، وأصيب هناك بالملاريا؛ مما اضطره للعودة إلى بيروت، ومنها
سافر بحرًا إلى بريطانيا موطنه الأصلي..
وبعد
تلك العودة قدم الدبلوما إلى السلطات الجامعية التي قامت بنسخ صورة منها،
وسلمتها إلى إدارة المخابرات البريطانية لتضمها إلى ملفه رقم 3174/س، وبعد
تلك الاستراحة عاد إلى العراق ملتحقًا بالبعثة البريطانية التي تقوم هناك
بعمل بحوث عن آثار بابل، وهناك توثقت معرفته أكثر بالصحراء وأهلها، وعرف
كيف يحيا الإنسان في الصحراء مع الله ومع نفسه، وهكذا أصبح لورنس يعرف
الشرقيين، ويعرف عاداتهم، ويتعلم لغتهم؛ بل وأصبح يجيد اللهجة البدوية،
وصار كأنه من أهل هذه البلاد، وقد أدت قدرته على التحمل إلى إعجاب البدو
الزائد به، وكان لورنس يعد نفسه لعمل سياسي في البلاد العربية لم يسبقه
إليه أحد..
عاد
لورنس إلى لندن وقد تغيرت حياته، وأخذ يتحين الفرص للعمل الذي خطط له، وقد
حالفه الحظ عندما أطلق شاب النار عام 1914 على الأرشيدون النمساوي فقتله؛
وبذلك بدأت الحرب العالمية الأولى، فعين لورنس برتبة ضابط احتياط في فرع
الخرائط لدى القيادة العامة للقوات البريطانية، التي كانت تحتل القاهرة
وقتها، وبعد ذلك بدأت تظهر حقيقة لورنس؛ حيث التحق بالعمل هناك، وتم نقل
نشاطه إلى منظمة سرية أُنشئت في القاهرة تحت اسم مستعار لتغطية نشاطها
باسم المكتب العربي؛ وهذا المكتب عبارة عن فرع من فروع المخابرات
البريطانية لممارسة النشاط التخريبي في مصر والأقطار العربية، وبعض
البلدان التابعة للسلطة العثمانية في ذلك الوقت..
في
12 أكتوبر سنة 1916 توجه السير ستور البريطاني إلى السعودية، وكان اسمها
الحجار أو الجزيرة العربية، يرافقه لورانس وبعض الضباط البريطانيين، وكانت
تلك الرحلة تاريخية بالنسبة للورانس؛ إذ إنه بدأ معها ظهور أسطورة لورانس
العرب، بل بدأت معها أكبر ملحمة عرفتها حياة إنسان، وهناك استطاع التسلل
إلى القبائل العربية التي كانت ثائرة على الاستعمار العثماني، وراغبة في
التخلص من حكم الأتراك..
واستطاع
لورنس أن يقنعهم بالثورة على العثمانيين، والتحالف مع القوات البريطانية
مقابل التعهد لهم بإقامة دولة عربية واحدة مستقلة، وأصدرت السلطات
البريطانية ما يثبت للقبائل العربية أنها تنفذ ما تعهد به لورانس باسمها،
ولكن ما إن انتهت الحرب العالمية الأولى حتى تنكرت بريطانيا لهذا الوعد،
وجزأت البلاد العربية كما هو معروف..
وظهرت
أكذوبة لورانس، وأنه عميل يهدف إلى تفتيت وحدة العرب، وعدم السماح لها
بتوحيد قواها الآن، وقام بعملية دسيسة أخرى؛ إذ إنه وعد شريف مكة باسم
بريطانيا بأنها تضمن قيام دولة عربية تمتد من البحر الأحمر حتى الخليج
العربي، وتشمل الجزيرة العربية بأسرها، بما فيها الساحل السوري الذي يضم
سوريا ولبنان وفلسطين، وقام لورنس في حينه بتسليم شريف مكة رسائل موقعة من
مكماهون المندوب السامي البريطاني في مصر، وهذه الرسائل تتعهد باسم
الحكومة البريطانية بتنفيذ التعهدات المذكورة أعلاه، وسميت هذه الرسائل
باسم مذكرات مكماهون، وقد خدع زعماء القبائل وشريف مكة وأعلنا الثورة على
الأتراك، وعندما هزمت تركيا بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى
اتضح أن البريطانيين لم يخلوا بوعودهم للعرب فقط، بل إنهم عقدوا اتفاقًا
سريًا مع فرنسا، وعرف هذا الاتفاق فيما بعد باسم معاهد سايكس بيكو، التي
وقعها على الجانب البريطاني مارك سايكس، وجورج بيكون عن فرنسا، وبموجب هذه
المعاهدة تعود سوريا ولبنان لفرنسا، وتعود العراق والأردن وفلسطين
لبريطانيا..
بالإضافة
إلى ذلك فقد سافر بلفور وزير خارجية بريطانيا إلى الولايات المتحدة في صيف
1917، راجيًا تدخلها في الحرب إلى جانب الحلفاء، ولكن الرئيس الأمريكي في
حينه "ولسن" وعد بلفور بالتدخل شرط تأمين وطن قومي لليهود في فلسطين،
ووافقه على ذلك. ويقول لورانس عن ذلك:
إن
أخبار هذه المعاهدات من وراء ظهري قد وصلت إلى العرب عن طريق تركيا، وطلب
مني بعض الأصدقاء العرب أن أضمن لهم تعهدات بريطانيا التي أنتمي إليها،
ولكني لم أكن قد أبلغت رسميًا بتعهدات مكماهون، ولا بتعهدات سايكس بيكو
لأن هذه المعاهدات وصفتها وزارة الخارجية البريطانية، ولكنني لست غبيًا
إلى هذه الدرجة، فإني كنت أعرف أننا إذا كسبنا الحرب؛ فإن كل هذه التعهدات
ستصبح حبرًا على ورق، فلو كنت مستشارًا مخلصًا لكان علي تسريح رجالي من
المقاتلين العرب، ولا أدعهم يعرضون حياتهم للخطر بسبب تعهدات مشبوهة، ولكن
الحماس العربي معنا كان خير ورقة بيننا في حرب الشرق الأوسط من تركيا
حليفة ألمانيا. وهكذا تأكدت وقلت لرفاقي في القتال إن إنجلترا ستكون عند
حسن الظن بها، وستحترم تعهداتها. أما من وجهة لورنس العرب، فلم أكن فخورًا
بما فعلت؛ لأني لم أزل أحس بمرارة الخجل ومرارة الخيانة..
أما
بريطانيا؛ فقد اعتبرت لورنس يقوم بخداع هؤلاء البدو من العرب لمصلحتها،
فقامت بمنحه وسام الحرب، لكن لورنس عندما شعر بما يبيت للعرب؛ فقد رفض
الوسام، فاعتبر الملك البريطاني أن هذا الرفض إهانة له، كما سبق أن رفض
استلام معاشه من الجيش البريطاني ليظل حرًا في تصرفاته...
وعندما ذهب الشريف فيصل إلى باريس للإعداد لمؤتمر السلم في قصر فرساي؛ رافقه لورنس ودعمه بقوة..
وفي
باريس حامت الشبهات حول لورانس، وكان نوري السعيد يحرض الملك فيصل عليه،
وزادت الشبهات عندما نصح لورنس الملك فيصل بأن يعترف بقيام وطن قومي
لليهود في فلسطين..
وهكذا
كشف لورنس نفسه، ومن المعروف أن الملك فيصل لم ينل شيئًا من باريس، فعاد
إلى دمشق، وقد عين ملكًا لسوريا، حتى اضطر إلى مغادرتها بعد معركة ميلسون
المعروفة من 25 يونيو عام 1949.
وبعد
انتهاء الحرب العالمية الأولى؛ انتهت مهمة لورنس تقريبًا، وعاد إلى لندن
يقضي هناك بقية أيام حياته، وانطوى على نفسه حتى لم يعد أحد يراه مطلقًا،
فأخذت الإشاعات تنطلق هنا وهناك حول اختفائه، ومنهم من قال إنه أصيب
بالجنون، ومنهم من قال إنه عاد إلى الصحراء العربية ليقضي هناك بقية عمره.
وفي
منزل ريفي صغير تفرغ لورنس لكتابة مذكراته التي نشرها في كتاب بعنوان
أعمدة الحكمة السبعة.. هذا الكتاب الذي أحدث أكبر ضجة أدبية وسياسية.
وأخيرًا.. مات لورانس بعد أن صدمته سيارة مسرعة .. مات لورانس.. ولكن القضية العربية لم تمت..
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى